من المرارات المتعاقبة , أردت استخلاص قطرتين من الحلاوة , من البؤس المتكرر , أردت الانتهاء , إلى وهج يعجز إن ينال منه أي بؤس , في زمن مهشم , معذب , أردت إن أتبين جمالا يتخطى التهشيم والعذاب , وبقدر ما انخرطت في زمني هذا , كان همي ان انتزع منه ما ينمي شجرة الأمل بان الإنسان سيخرج من ذلك منتصرا لإنسانيته وحبه ممتلئا من نعمة الله وروعة الكون , وان دهشته سوف لن تنتهي , ولو ان بؤسه قد لا ينتهي أيضا .. ( جبرا إبراهيم جبرا )
بهذه الكلمات المعبرة أعمق تعبير يلخص الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا تجربته الثرة في الإبداع والحياة على اتساعها وتنوع مساراتها المختلفة وموسوعيتها .
ولد جبرا عام 1920 في مدينة بيت لحم فلسطين . عاش طفولته فيها وشرع بالدراسة في مدينة القدس . ثم انتقل بعدها للدراسة في جامعة كامبرج في المملكة المتحدة , وفي عام 1949 عام النكسة انتقل الى العراق ومكث فيه حتى وفاته في 12/12/1994 .
جبرا إبراهيم جبرا قامة سامقة في سماء الثقافة العربية لا يختلف فيها اثنان حيال أهميته في المشهد الإبداعي والثقافي العربي , جبرا إبراهيم جبرا كاتب موسوعي متعدد الاهتمامات موسوعي المعرفة في العديد من مجالات الثقافة والإبداع . كان روائيا مبدعا وناقدا ثاقب البصيرة عميق الأثر وناقدا تشكيليا ضليعا وقبل ذلك رساما ومترجما متمكنا وذواقا للأدب .
ويجمع النقاد انه لم يكن شاعرا مثله مثل إجادته في باقي المجالات الإبداعية على الرغم من مجاميعه الشعرية الأربع التي أصدرها وهي : تموز في المدينة في عام 1959 , المدار المغلق في عام 1964 ولوعة الشمس في عام 1979 , ومجموعته الرابعة متواليات شعرية في عام 1996 , بيد انه كان يواصل التنظير والنشر بشأن رؤيته للشعر .
في فن الرواية كان لجبرا العديد من الروايات المهمة إذ بدأها بـ ( صيادون في شارع ضيق ) وقد كتبها بالانكليزية طلبا للشهرة والمجد حسب رأيه الشخصي , بيد انه سرعان ما اكتشف إن الشهرة يمكن إن تأتي تبعا لأهمية العمل الروائي لا للغة العالمية كما فعل أول مرة , صدرت ترجمة هذه الرواية عام 1974 , ثم اصدر روايته اللاحقة ( البحث عن ولد مسعور ) ثم السفينة والتي يعدها الناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم من اخطر الروايات العربية الحديثة ثم ( يوميات سراب عفان ) و ( عالم بلا خرائط ) بالاشتراك مع الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف .
وتعد الرواية الأخيرة تجربة فريدة , كونها عملا روائيا يكتبه روائيان . وكذلك رواية (الغرف الأخيرة ) ويؤاخذ جبرا على كون شخصياته الروائية في الأعم الأغلب من المجتمع المخملي من المثقفين ومن الطبقة الارستقراطية في المجتمع . وفي النقد الأدبي كتب وترجم جبرا كتبا نقدية رائعة ظلت شاخصة في المشهد الثقافي العربي مثل (الحرية والطوفان )
( وينابيع الرؤيا )( والنار والجوهر ) و(الأسطورة والرمز ) و(قلعة اكسل ) لادمون ولسن و(الرحلة الثامنة) و(شكسبير والإنسان المستوحد ) و(تأملات في بنيان مرمري ) و(جذور الفن العراقي ) و(ماقبل الفلسفة) لهنري فرانكفورت.
من الجدير بالذكر إن جبرا إبراهيم جبرا قام بترجمة العديد من روائع مسرحيات شكسبير مثل( الملك لير) و(عطيل) و(هاملت) و(مكبث) و(العاصفة) فضلا عن السونيتات الشكسبيرية وترجم مسرحية بيكيت ( في انتظار غودو) وترجم فصلا من الغصن الذهبي لجمس فريزر, كما قام بترجمة رواية فوكنر (الصخب والعنف) وقد عقب على ترجمته الاخيرة انه قام باختيار قمتين من قمم الأدب العالمي احدهما متمثلة بشكسبير وقد قام بترجمة العديد من مسرحياته كما اسلفنا وترجم للقمة الثانية وليم فوكنر( الصخب والعنف) وعهد بترجمة رواية( نور في آب) لفوكنر الى صديقه عطا عبد الوهاب وقد فعل الأخير ذلك .
ولقد توج إعماله الرائعة تلك بين الموضوعة والترجمة بإصدار كتابين هما عبارة عن سيرته الذاتية , صدر الجزء الأول منها تحت عنوان البئر الأولى في عام 1989 في حين صدر جزؤها الثاني تحت عنوان شارع الأميرات في عام 1994 . وقد كتبهما بأسلوب سردي رائع تقرأهما وكأنك تقرأ رواية شعبية أجيد سبكها على دراية ومران طويلين .
هذا الدفق الهائل الكبير للمنجز الإبداعي لجبرا إبراهيم جبرا الذي توزع بين القصة القصيرة والرواية والترجمة والشعر والنقد الأدبي والفن التشكيلي يحيلنا إلى حقيقة مفادها إن الموهبة والتكوين الثقافي لهذا المبدع الكبير العملاق جنبا إلى جنب , إذا شحت الموهبة وهيهات لدى جبرا إن تشح فاض التكوين الثقافي رؤى وعطاءا ثرا واذا شح التكوين الثقافي وهيهات ان يشح فاضت الموهبة الجبراوية عطاءا واصالة وتنوعا , ترى كيف تأتى له هذا الالمام الواسع في مجالات الابداع ولو لم يكن مستندا الى ارث معرفي وثقافي منوعين يجد فيه جبرا انه ليس سوى مجالات للتعبير تختلف بحسب طبيعة الظروف المحيطة يدعمها شخصي مثابرة صبورة سعيا لاثبات الذات في زمن عز فيه الوطن في ارض الشتات . وهذا بالضبط ما سعى جبرا لاثباته بكفاءة ومقدرة وقد نهج فيه الى ابعد الحدود المتاحة .
ان اطلالة سريعة كهذه وبهذه العجالة لايمكنها ان تتيح المجال لتناول ابداع هذا الرجل فانني لم اذكر جميع ما كتبه او ترجمه فهو بحاجة الى دراسات كثيرة ومتنوعة بتنوع ابداعه .يعتقد جبرا ان اهتماماته كلها انما تصب بدفق في خضم هذا النهر الجاري من الابداع والاصالة وانها على كثرتها وتعددها وتنوعها مدعاة للتساؤل عن جوهر الابداع الحي ودفقه الباذخ الآخاذ وعمقه وروعته . انها ذخيرة حية لمبدع كبير قال كلمته بقوة ثم رحل الى الابدية .وحين عنونت المقال (أستاذي .. جبرا إبراهيم )انما انني تعلمت منه من خلال منجزه الكبير كما تعلمت من اساتذتي الافاضل جزاهم الله عني كل خير ..
*أكاديمي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق